أنت هنا

بقلم الدكتور لؤي شبانة

مدير صندوق الأمم المتحدة للسكان للمنطقة العربية

 

 في زيارتي الأخيرة لمخيم الزعتري في الأردن، استوفتني كثيرا فكرة أن يصبح مجرد البقاء على قيد الحياة هدف يومي، رغم أن الحياة هبة من الله يتوجب ان نحياها ونستمتع فيها بقدر معقول من الحقوق والخدمات.  دار ذلك في ذهني وانا استمع لبعض اللاجئات السوريات وقد لفت انتباهي العدد الكبير للنساء الحوامل أمام عيادات الصحة الإنجابية التابعة لصندوق الأمم المتحدة للسكان، والتي تقدم خدمات طبية للنساء أثناء الحمل والولادة وتشرف على صحة حديثي الولادة. كنت قد زرت العيادات في مرات سابقة ويبدو لي أن أعداد النساء الحوامل كانت أقل في زياراتي الأولى. لكنني عزوت ذلك إلى فاعلية العيادة ومهنية العاملات والعاملين بها، والثقة التي حصلوا عليها بفضل جهودهم وقربهم من السيدات ومن العائلات في المخيم عموما  مما قد أقنع المزيد من النساء بزيارتها، لا سيما وأن ما يزيد عن 7000 ولادة  في عيادات المخيم منذ عام 2011 قد تمت بنجاح دون تسجيل وفاة واحدة .

 

كنت تواقا لأفهم من النساء والرجال ماذا يدور في أذهانهم وهم يخططون لعدد المواليد وتكاثر أسرهم في شتات مجهول ومستقبل غامض بعيدا عن محاولات تسييس موضوع تواجد وتكاثر اللاجئين من قبل الدول والإعلام، فقد استوقفني حديث بعض السوريات وهن يتبادلن الآراء حول الحمل والولادة وعدد أطفال كل منهن، مؤكدين أنهن ومن يعرفن قد قررن العزوف عن استخدام أساليب تنظيم الأسرة. "إذا ما ضليت جيب أولاد زوجي ممكن يتزوج علي"، تقول إحداهن بجدية.

 

اقتحمت الحوار وسألتها عن عدد وأعمار أطفالها، وعما إذا كانت قد قارنت بين ما يمكنها أن تقدمه لأطفالها اليوم، في ظل حياة اللجوء والبعد عن البيت والعائلة، وما سوف يترتب عليها إن ازداد عدد أفراد الأسرة. "طبعا لما يكتروا الأولاد بيكبر الهم، بس الله بعين" جاوبتني. "بعدين هيك بدو أبو الأولاد"، وانتهى الحديث.

 

تربط المنظمات التنموية والجمعيات الحقوقية موضوع تنظيم الأسرة بموضوع حقوق المرأة، إذ ترى علاقة مباشرة بين إمكانية المرأة أن تختار موعد وعدد مرات الحمل، وبين قدرتها على اتخاذ قرارات مبنية على الفهم وتوفر المعلومات حول صحتها وجسدها. كما تربط المنظمات التنموية بين تطور وتقدم المجتمعات وبين إمكانية الأسر أن تقرر عدد أطفالها بناء على إمكانيتاها المادية، أي أن تتمكن الأسرة من الاستثمار في عدد من الأولاد حسب إمكانيتاها، فتستثمر في تعليمهم وفي صحتهم كأساس لوضعهم على طريق مستقبلهم.

 

وتعتمد النظرة الحقوقية لموضوع تنظيم الأسرة على مفهوم حرية الاختيار لما تراه الأسرة مناسبا لوضعها وإمكانياتها، إذ لا إرغام في موضوع عدد الأطفال إنما من المهم إمداد النساء والرجال بمعلومات وافية حول الصحة الإنجابية عموما وأثر الحمل والولادة على صحة الأم البدنية والنفسية، خصوصا إن كانت الأم في عمر يافع، إذ ينصح الأطباء بالانتظار إلى ما بعد سن الثامنة عشرة، مم يقوي من جسد الفتاة ويعطيها أيضا فرصة للدراسة أو للعمل قبل أن تتحمل مسؤولية الأطفال.  وتثبت الدراسات الاقتصادية أن التحصيل العلمي والانخراط بالعمل من شأنه أن يرفع من مستوى الدخل، بالمقارنة بالأسر التي تتكون قبل أن تكمل الأم أو حتى الأب دراستهما.

 

 

أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 11 تموز/يوليو يوما عالميا للسكان وذلك بهدف ربط مسألة السياسيات السكانية بتطور ونمو المجتمعات. ويصادف هذا العام تبني المجتمع الدولي موضوع تنظيم الأسرة في اليوم العالمي للسكان. وقد تضاعف عدد النساء حول العالم اللاتي يستخدمن أساليب حديثة لتنظيم الأسرة في فترة نصف القرن الماضية، إلا أن الطريق ما زال طويلا أمام الكثير من النساء والفتيات في البلاد النامية عموما. وبينما أقرت الأمم المتحدة 17 هدفا سترايجيا تعهدت مع الدول الأعضاء أن تصل إليها مع حلول عام 2030 والذي من ضمنها القضاء على الفقر، ينبغي إعادة التفكير بعلاقة النمو الاقتصادي بتحقيق الحقوق وتنظيم الأسرة والسياسات السكانية. وتبرز أهمية هذه العلاقة بشكل أوضح أثناء الأزمات الإنسانية حين يتعذر الحصول على الخدمات الطبية وتصبح النساء أكثر استضعافا وعرضة للعنف عموما، بما في ذلك العنف على يد الزوج أو أفراد الأسرة من الرجال. كما يصبحن أكثر عرضة للزواج المبكر، الذي بدوره يضعهن في مواجهة الخطر الناجم عن الحمل والولادة على أجسادهن، ويكثيرا ما يحرمهن من مقاعد الدراسة.

 

في الأزمات الإنسانية يجب التركيز على خدمات الصحة الإنجابية، فيتم توفير المعلومات والخدمات الطبية التي بإمكانها أن تنقذ الأرواح، إذ يمكن تفادي نحو ثلث الوفيات من جراء الحمل والولادة بفضل خدمات الصحة الإنجابية وعلى رأسها أساليب تنظيم الأسرة. في الأزمات الإنسانية تصبح الصحة الإنجابية موضوع حياة أو موت، ويصبح التنظيم والتخطيط الحكيم للأسرة عاملا أساسيا في حالة الأسرة الاقتصادية.

 

هناك، أمام العيادة في مخيم الزعتري، نظرت للسيدة التي خافت على زوجها فرضخت لطلبه أن تحمل له كل سنة طفلا، وبدأت معها حديثا عن أهمية أن تحافظ على صحتها. قامت المرأة من أمامي وسرعان ما عادت ومعها زوجها. "ممكن تحكي معه؟" قالت وهي تبتعد. طبعا ممكن، فتنظيم الأسرة مسؤولية المرأة والرجل.

 

 

 

مدير صندوق الأمم المتحدة للسكان للمنطقة العربية

 

مدير صندوق الأمم المتحدة للسكان للمنطقة العربية